فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{وَمِنَ الأعراب} شروعٌ في بيان تشعّبِ جنسِ الأعرابِ إلى فريقين وعدم انحصارِهم في الفريق المذكورِ كما يتراءى من ظاهر النظم الكريم، وشرحٌ لبعض مثالبِ هؤلاء المتفرعةِ على الكفر والنفاق بعد بيانِ تماديهم فيهما، وحملُ الأعراب على الفريق المذكورِ خاصةً وإن ساعده كونُ من يحكي حالَه بعضًا منهم وهم الذين بصدد الإنفاقِ من أهل النفاقِ دون فقرائِهم أو أعرابِ أسدٍ وغطفانَ وتميم كما قيل لكن لا يساعده ما سيأتي من قوله تعالى: {وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ} الخ، فإن أولئك ليسوا من هؤلاء قطعًا وإنما هم من الجنس أي ومن جنس الأعرابِ الذي نُعت بنعت بعضِ أفردِه {مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ} من المال أي يعُدّ ما يصرِفه في سبيل الله ويتصدق به صورةً {مَغْرَمًا} أي غرامةً وخُسرانًا لازمًا إذ لا ينفقه احتسابًا ورجاءً لثواب الله تعالى ليكون له مغنمًا وإنما ينفقه رياءً وتقيّةً فهي غرامةٌ محضةٌ، وما في صيغة الاتخاذِ من معنى الاختيارِ والانتفاعِ بما يتخذ إنما هو باعتبار غرضِ المنفقِ من الرياء والتقيةِ لا باعتبار ذاتٍ منفِقَةٍ أعني كونَها غرامة {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدوائر} أصلُ الدائرة ما يحيط بالشيء والمرادُ ما لا محيص عنه من مصائب الدهرِ أي ينتظر بكم دوائرَ الدهرِ ونُوَبَه ودَوَلَه ليذهب غلَبتُكم عليه فليتخلص مما ابتُلي به {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء} دعاءٌ عليهم بنحو ما أرادوا بالمؤمنين على نهج الاعتراض كقوله سبحانه: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} بعد قول اليهود ما قالوا والسوءُ مصدرٌ ثم أطلق على كل ضُرَ وشر وأضيفت إليه الدائرةُ ذمًا كما يقال: رجلُ سوءٍ لأن مَن دارت عليه يذمّها، وهي من باب إضافةِ الموصوفِ إلى صفتِه فوصفت في الأصل بالمصدر مبالغةً ثم أضيفت إلى صفتِها كقوله عز وجل: {مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْء} وقيل: معنى الدائرةِ يقتضي معنى السَّوءِ فإنما هي إضافةُ بيانٍ وتأكيدٍ كما قالوا: شمسُ النهارِ ولَحْيا رأسِه وقرئ بالضم وهو العذابُ كما قيل له سيئة {والله سَمِيعٌ} لما يقولونه عند الإنفاقِ مما لا خيرَ فيه {عَلِيمٌ} بما يُضمِرونه من الأمور الفاسدةِ التي من جملتها أن يتربّصوا بكم الداوائرَ وفيه من شدة الوعيد ما لا يخفى. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا}
{وَمِنَ الأعراب} أي من جنسهم الذي نعت بنعت بعض أفراده.
وقيل: من الفريق المذكور {مَن يَتَّخِذُ} أي يعد {مَا يُنفِقُ} أي يصرفه في سبيل الله تعالى ويتصدق به كما يقتضيه المقام {مَغْرَمًا} أي غرامة وخسرانًا من الغرا بمعنى الهلاك، وقيل: من الغرم وهو نزول نائبة بالمال من غير جناية، وأصله من الملازمة ومنه قيل لكل من المتداينين غريم، وإنما أعدوه كذلك لأنهم لا ينفقونه احتسابًا ورجاء لثواب الله تعالى ليكون لهم مغنما وإنما ينفقونه تقية ورئاء الناس فيكون غرامة محضة، وما في صيغة الاتخاذ من معنى الاختيار والانتفاع بما يتخذ إنما هو باعتبار غرض المنفق من الرياء والتقية لا باعتبار ذات النفقة أعني كونها غرامة {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدوائر} أي ينتظر بكم نوب الدهر ومصائبه التي تحيط بالمرء لينقلب بها أمركم ويتبدل بها حالكم فيتخلص مما ابتلي به {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء} دعاء عليهم بنحو ما يتربصون به، وهو اعتراض بين كلامين كما في قوله تعالى: {وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ} [المائدة: 64] الخ، وجوز أن تكون الجملة اخبارًا عن وقوع ما يتربصون به عليهم، والدائرة اسم للنائبة وهي في الأصل مصدر كالعافية والكاذبة أو اسم فاعل من دار يدور وقدم تمام الكلام عليها، و{السوء} في الأصل مصدر أيضًا ثم أطلق على كل ضرر وشر وقد كان وصفًا للدائرة ثم أضيفت إليه فالإضافة من باب إضافة الموصوف إلى صفته كما في قولك: رجل صدق وفيه من المبالغة ما فيه، وعلى ذلك قوله تعالى: {مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْء} [مريم: 28] وقيل: معنى الدائرة يقتضي معنى السوء فالإضافة للبيان والتأكيد كما قالوا: شمس النهار ولحيا رأسه.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {السوء} هنا وفي ثانية الفتح بالضم وهو حينئذ اسم بمعنى العذاب وليس بمصدر كالمفتوح وبذلك فورق الفراء بينهما: وقال أبو البقاء: السوء بالضم الضرر وهو مصدر في الحقيقة يقال: سؤته سوءا ومساءة ومسائية وبالفتح الفساد والرداءة، وكأنه يقول بمصدرية كل منهما في الحقيقة كما فهمه الشهاب من كلامه، وقال مكي: المفتوح معناه الفساد والمضمون معناه الهزيمة والضرر وظاهره كما قيل إنهما اسمان {والله سَمِيعٌ} بمقالاتهم الشنيعة عند الانفاق {عَلِيمٌ} بنياتهم الفاسدة التي من جملتها أن يتربصوا بكم الدوائر، وفيه من شدة الوعيد ما لا يخفى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)}
هذا فريق من الأعراب يُظهر الإيمان ويُنفق في سبيل الله.
وإنما يفعلون ذلك تقية وخوفًا من الغزو أو حبًا للمحمدة وسلوكًا في مسلك الجماعة، وهم يبطنون الكفر وينتظرون الفرصة التي تمكِّنهم من الانقلاب على أعقابهم.
وهؤلاء وإن كانوا من جملة منافقي الأعراب فتخصيصهم بالتقسيم هنا منظور فيه إلى ما اختصوا به من أحوال النفاق، لأن التقاسيم في المقامات الخَطابية والمجادلات تعتمد اختلافًا مَّا في أحوال المقسّم، ولا يُعبأ فيها بدخول القسم في قسِيمه.
فقوله: {ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرمًا} هو في التقسيم كقوله: {ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر} [التوبة: 99].
ومعنى {يتخذ} يَعُد ويجعل، لأن اتخذ من أخوات جعل.
والجعل يطلق بمعنى التغيير من حالة إلى حالة نحو جعلت الشقة بردًا.
ويطلق بمعنى العد والحسبان نحو {وقد جعلتم الله عليكم كفيلًا} [النحل: 91] فكذلك {يَتخذ} هنا.
والمَغرم: ما يدفع من المال قهرًا وظُلمًا، فهؤلاء الأعراب يؤتون الزكاة وينفقون في سبيل الله ويعُدون ذلك كالأتاوات المالية والرزايا يدفعونها تقية.
ومن هؤلاء من امتنعوا من إعطاء الزكاة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال قائلهم من طيء في زمن أبي بكر لما جاءهم الساعي لإحصاء زكاة الأنعام:
فَقُولاَ لهذا المرءِ ذُو جاءَ ساعيًا ** هَلُمَّ فإن المَشْرفيَّ الفرائض

أي فرائض الزكاة هي السيف، أي يعطون الساعي ضربَ السيف بدلًا عن الزكاة.
والتربص: الانتظار.
والدوائر: جمع دائرة وهي تغير الحالة من استقامة إلى اختلال.
وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة} في سورة العقود (52).
والباء للسببية كقوله تعالى: {نتربص به ريب المنون} [الطور: 30] وجُعل المجرور بالباء ضمير المخاطبين على تقدير مضاف.
والتقدير: ويتربص بسبب حالتكم الدوائر عليكم لظهور أن الدوائر لا تكون سببًا لانتظارِ الانقلاب بل حالهم هي سبب تربصهم أن تنقلب عليهم الحال لأن حالتهم الحاضرة شديدة عليهم.
فالمعنى أنهم ينتظرون ضعفكم وهزيمتكم أو ينتظرون وفاة نبيكم فيظهرون ما هو كامن فيهم من الكفر.
وقد أنبأ الله بحالهم التي ظهرت عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وهم أهل الردة من العرب.
وجملة: {عليهم دائرة السوء} دعاء عليهم وتحقير، ولذلك فُصلت.
والدعاء من الله على خلقه: تكوين وتقدير مشوبٌ بإهانة لأنه لا يعجزه شيء فلا يحتاج إلى تمني ما يريده.
وقد تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى: {فلعنة الله على الكافرين} في سورة البقرة (89).
وقد كانت على الأعراب دائرة السوء إذ قاتلهم المسلمون في خلافة أبي بكر عام الردة وهزموهم فرجعوا خائبين.
وإضافة {دائرة} إلى {السوء} من الإضافة إلى الوصف اللازم كقولهم: عِشاءُ الآخِرة.
إذ الدائرة لا تكون إلا في السوء.
قال أبو علي الفارسي: لو لم تضف الدائرة إلى السوء عُرف منها معنى السوء لأن دائرة الدهر لا تستعمل إلا في المكروه.
ونظيره إضافة السوء إلى ذئب في قول الفرزدق:
فكنتَ كذئب السَّوء حين رأى دَمًا ** بصاحبه يومًا أحال على الدم

إذ الذئب متمحض للسوء إذ لا خير فيه للناس.
والسَّوء بفتح السين المصدر، وبضمها الاسم.
وقد قرأ الجمهور بفتح السين.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحدهما بضم السين، والمعنى واحد.
وجملة: {والله سميع عليم} تذييل، أي سميع ما يتناجون به وما يدبرونه من الترصد، عليم بما يبطنونه ويقصدون إخفاءه. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)}
وعلى سبيل المثال: إذا ذهب إليهم داعية من الدعاة، وقال لهم فكرة عن الإسلام. فالواحد من هؤلاء الأعراب يدَّعي في ظاهر الأمر أنه يتبع الإسلام، وإن عُلِمَ أن في الإسلام زكاة فهو يعطي عامل الزكاة النصاب المقرر عليه، ويعتبر ما دفعه {مغرما} أي غرامة؛ لأنه أعطى النصاب وهو كاره. وما دُمْتُ كارهًا فأنت لا تؤمن بحكمته، وتظن أن ما دفعته مأخوذ منك. وتقول: أخذوا عرقي وأخذوا ناتج حركتي وأعطوه لمن لم يعرق ولم يتحرك في الحياة، متناسيًا أن هذا الأخذ هو تأمين لحياتك؛ لأنك حين تعجز ستجد من يعطيك، والإسلام يأخذ منك وأنت قادر، ويعطيك إذا عجزت، وفي هذا تأمين لحياتك.
وأنت تعلم أن الأشياء أعراض في الكون؛ القوة عرض، والمرض عرض، والصحة عرض، والعجز عرض، وأنت عُرْضة إن كنت قادرًا أن تصير عاجزًا، وإن كنت صحيح الجسد فأنت عرضة لأن تمرض، فإذا ما طمأنك المشرع على أن أخاك العاجز حين عجز أخذنا منك له حين قدرت؛ وبذلك تواجه أنت الحياة برصيد قوي من الإيمان والشجاعة، ويبين الحق لك أنك لا تعيش وحدك، ولكنك تعيش في مجتمع متكافل، إن أصابك شيء من عجز، فقدرة الباقي هي المرجع لك.
وكان الواحد من هؤلاء الأعراب يؤدي نصاب الزكاة وهو كاره ويعتبرها مَغْرمًا، ومنهم من كان يتمنى أن تصيب المسلمين كارثة؛ حتى لا يأخذوا منه الزكاة، وهكذا كان الواحد منهم يتربص بالمسلمين الدوائر، مصداقًا لقول الحق: {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدوائر}. أي يتمنى وينتظر أن يصيب الملسمين كارثة؛ فلا يأخذوا منه الزكاة التي اعتبرها مغرمًا.
ولماذا قال الحق: {الدوائر}؟ نعلم أن الخطْبَ الشديد حين يصيب الإنسان أو القوم إن كان فظيعًا وقويًّا يقال: دارت عليهم الدوائر أي أن المصيبة أحاطت بهم؛ فلا منفذ لهم يخرجون منه، وكان بعض من الأعراب يتربصون بالمسلمين الدوائر؛ لأنهم كارهون لدفع الزكاة ويظنون أنها غرامة، ولا يستوعبون أن الزكاة تُكْتب في الميزان، وأنها تطهير ونماء للمال، وأنها حمل لعجز العاجز، إن عجز الواحد منهم؛ فسوف يجد من يحمله.
والذي يتربص بكم الدوائر، ولا يفطن إلى حكمة الأخذ منه، هو الذي تأتي عليه دائرة السوء مصداقًا لقول الحق: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}؛ لأن أيًّا منهم لم يفطن وينتبه لقيمة الوجود في المجتمع الإيماني الذي يعطي له الزكاة إن عجز، فإن تربصت الدائرة بمن يأخذ منك، ولم تفطن إلى أن من يأخذ منك يصح أن يأخذ من الغير لك؛ فسوف تأتي الدائرة عليك.
وقول الحق: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء} تبدو كأنها دعوة، ومن الذي يدعو؟ إنه الله.
وهناك فرق بين أن يدعو غير قادر، وبين أن يدعو قادرًا. إن كان ربنا هو من يقول: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء}، فدائرة السوء قادمة لهم لا محالة.
وينهي الحق الآية: {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، فسبحانه يسمع كلماتهم حين يأتي عامل الزكاة ليأخذ نصاب الزكاة، وكيف كانوا يستقبلونه بما يكره، وقد يكرهون في طي نفوسهم ولا يتكلمون، فإن تكلموا فالله سميع، وإن لم يتكلموا، وكتموا الكراهية في قلوبهم، فالله عليم، إذن: فهم محاصرون بعلم الله وسمعه.
وبعد ذلك جاء الحق سبحانه للصنف الثاني، وهم من لهم قليل من الإلف، فإن كان من أهل البادية فله أهل من الحضر، أو كان من الحضر فله أهل من البادية فيقول سبحانه: {وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ...}. اهـ.